علي بن الجهم
(188 هـ - 249 هـ / 803 - 863م)
هي تلك القصة التي تروى أن الشاعر كان بدوياً صحراوياً، وعندما قدم إلى بغداد لأول مرة آثر أن يبدأ عهده بمدح خليفتها المتوكل على عادة الشعراء فأنشده قصيدة منها:
أنت كالكلب في حفاظك للود
وكالتيس في قرع الخطوب
أنت كالدلو لا عدمناك دلواً
من كبار الدلا كثير الذنوب
الذنوب: كثير السيلان بسبب امتلائه.
فعرف المتوكل كما تقول القصة حرفياً، حسن مقصده وخشونة لفظه، وأنه ما رأى سوى ما شبهه به، لعدم المخالطة وملازمة البادية، فأمر له بدار حسنة على شاطئ دجلة، فيها بستان حسن، والجسر قريب منه وأمر بالغذاء اللطيف أن يتعاهد به فكان - أى بن الجهم - يرى حركة الناس ولطافة الحضر، فأقام ستة أشهر على ذلك، والأدباء يتعاهدون مجالسته، ثم استدعاه الخليفة بعد مدة لينشده، فحضر وأنشد:
عُيونُ المَها بَينَ الرَّصافَةِ وَالجِسرِ
جَلَبنَ الهَوى مِن حَيثُ أَدري وَلا أَدري
أَعَدنَ لِيَ الشَوقَ القَديمَ وَلَم أَكُن
سَلَوتُ وَلكِن زِدنَ جَمراً عَلى جَمرِ
سَلِمنَ وَأَسلَمنَ القُلوبَ كَأَنَّما
تُشَكُّ بِأَطرافِ المُثَقَّفَةِ السُمرِ
وَقُلنَ لَنا نَحنُ الأَهِلَّةُ إِنَّما
تُضيءُ لِمَن يَسري بِلَيلٍ وَلا تَقري
إلى آخرها....
فقال المتوكل: لقد خشيت عليه أن يذوب رقة ولطافة!.
وفي الزمن الحاضر يستحضر الشاعر الدكتور/ عبد الرحمن بن صالح العشماوي تلك الكلمات التي يتحدث فيها أبا الجهم عن مدى تأثره بتلك الأعين التي وصفها بعيون المها ويأتي -أي العشماوي - بهذه القصيدة التي تحكي عيون المها تلك في زمن العراق الجريح الآن..
🌿عُيـــونُ الــمَـهـا..
عيونُ الـمَها بينَ الرَّصافة والجسْرِ
بَكينَ عراق المجدِ منْ شِدَّةِ القهْر
فليتكَ ياابنَ الجَهْمِ تُبصرُ ما جَرَى
وما اقتَرَفتْ إيرانُ فيها منَ الغَدْرِ
وما نَشرَ الإفرنْجُ فيها منَ الأسى
ومن حالةِ الفوضَى الكريهةِ والذُّعرِ
عيونُ الـمهَا يذْرفنَ دَمْعاً كأنَّهُ
تدَفُّقُ شلَّالٍ تحدَّرَ منْ صخْرِ
رأينَ دِماءً تصبغُ النّهر حُمْرةً
وأبصرْنَ أشلاء الأحبَّةِ في النَّهْرِ
وأبصرْنَ آلافَ الضَّحايا، دِماؤها
على كُلِّ شبرٍ في عراق الأسى تَجْري
رأينَ طُغاةً لا يُراعونَ ذِمَّةً
قد الْتحَفُوا ثوب الضلالَةِ والكُفْرِ
يُبيحُونَ قتلَ الطِّفلِ تمزيقَ جسمِهِ
وإنْ أحسنوا ألْقوهُ في لُجَّةِ البحرِ
فرَوَّعهن الحالُ حتى كأنَّما
وقَفنَ على جمْرٍ وسِرْنَ على جَمْرِ
عيونُ الـمها ما عُدْنَ يُغرينَ شاعِراً
وما عُدْنَ يُوقظنَ الصَّبابة في الشِّعرِ
رأينَ عراقَ المجْدِ في كفِّ ظالمٍ
يَجورُ بلا عُرفٍ لديهِ ولا نُكْرِ
تغذَّى غذاءَ الرَّفْضَ حتى غَدَا بلا
ضميرٍ ولا عقلٍ وصارَ بلا فِكْرِ
رأيْنَ عراقاً لو رآهُ خليفةٌ
بنى فيهِ صرحَ العلم والمجْدِ والفخْرِ
لهَزَّ حساماً يخطف العين برقُهُ
وأعْلَنَها حرباً تُلوِّحُ بالنَّصرِ
لقد صارَ يا ابن الجهم وجهُ عِراقِنا
بلا مُقْلةٍ ترنو إليْنا ولا ثَغْرِ
تدَاعَى عليهِ الغاصبون وأمَّتي
على ما يسوء القلب من حَالهَا المُزْري
تُسارِعُ في الأعداءِ ترجو موَدَّةً
وتلكَ - وربِّ البيتِ - قاصِمَةُ الظَّهْرِ
وكيفَ تنالُ النَّصرَ والعِزَّ أُمَّةٌ
تسيرُ إلى الأعْداءِ مَكشوفَةَ النَّحْرِ
رُصافَتُك ارْتاعتْ وأصبحَ ليْلُها
حزيناً بلا نجْمٍ يلُوحُ ولا بدْرِ
عيونُ المها تشكو جَفافَ قلوبنا
فلا نحنُ نُغْريها ولا كُحلُها يُغْري
تَهَاوى على أهدابِها ليلُ حسرةٍ
كتَائِبُها السَّوداء تقصِفُ بالفجْرِ
وأنَّى ترى ما يشرح الصَّدر ظبية
تُحدِّثها الظَّلْماء عن (مقْتدى الصَّدْرِ)
وعنْ مالِكِيٍّ ملَّك الحقدَ قلبَه
وعنْ كُلِّ مأفونِ الهَوى سيّءِ الذِّكْرِ
لَئنْ كنتَ يا ابنَ الجهْمِ أبصرتَ ظبيَةً
أصابتْكَ عيناها بغائلةِ السِّحْرِ
فإنَّا رأيْنا في الرَّصافَةِ أعْيُناً
بكَيْنَ على العِرْضِ المُدنَّسِ والطُّهْرِ
مَشَيْنَ على جِسْرِ الرّصافةِ مِشْيةً
مُكبَّلةً بالخوف والبُؤسِ والفقرِ
حزِنَّا لِـما يجري ولولا لُجوؤنا
إلى الله في عُسْرِ الحياةِ وفي اليُسْرِ
لتِهْنا جميعاً في متاهاتِ ضعفِنا
كما تاهَ عادٌ والعماليقُ في القَفْرِ
لجَأنا إلى المَوْلى الكريم وحسْبُنا
بهِ راعِياً نهفو إليهِ مدَى العُمرِ
رجَوْناكَ يا ربَّ العبادِ فإنَّنا
نُشاهِدُ طُغياناً على الأرضِ يستشري
ونسمَعُ أبواقاً تُزيِّنُ باطِلاً
أكاذيبُها في كلِّ ناحيَةٍ تسري
رَجَوْناكَ يا رحمنُ فاشرحْ صدورنا
وقرّبْ إلينا ما رَجَوْناه من نَصْرِ
عبدالرحمن صالح العشماوي
الرياض ٢٠-٤-١٤٣٧ 🌿
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق